حينما يصبح الكرتون أغلى من العقار... هل نخوض المعركة الخطأ؟
- عبدالله الشرهان

- 2 فبراير
- 11 دقيقة قراءة
تاريخ التحديث: 3 فبراير

تبدأ القصة دائمًا بحلم كبير، استوديو صغير يحلم بصناعة مسلسل كرتوني يحفر اسمه في ذاكرة المشاهد العربي، يحمل رسالة، ويمنح الشخصيات العربية صوتًا في عالم الرسوم المتحركة. لكن الأحلام، كما هي العادة، تصطدم بالواقع.
التمويل هو العقبة الأولى، لكن بعد طرق عشرات الأبواب، يجد الاستوديو أخيرًا من يؤمن بالفكرة ويوافق على تمويل المشروع. يتم الإنتاج بشغف، تُحرَّك الشخصيات، وتُروى القصة، وتُبث الحلقات. ثم ماذا؟
يكتشف أصحاب الاستوديو الحقيقة القاسية: لا يكفي أن تُنتج عملًا رائعًا، بل يجب أن تجد طريقة ليكون مستدامًا. الفواتير تتراكم، الفريق يحتاج إلى رواتب، السفينة مليئة بالثقوب، والمشاكل تتسلل من كل مكان! فالمؤسس يعرف كل شيء عن الرسوم المتحركة، لكنه لا يعرف شيئًا عن إدارة الشركات. فيبدأ أولًا بوضع رقع مؤقتة للمشاكل، ثم ينتقل إلى البحث عن مصادر دخل أخرى: إنتاج إعلانات متحركة للشركات، أو إقحام المنتجات والخدمات في مسلسله الكرتوني، لتصبح شخصيته الكرتونية تعمل لديهم بدلًا من أن تعمل لديه! يحاول تنويع المصادر بتقديم دورات تدريبية أو قبول الاستضافات كمتحدث عن تجربته لإلهام الآخرين لحذو حذوه، (أو عله يجد من يحذره)، ثم ينتقل لتأجير شخصيات الكرتون لحفلات الميلاد والفعاليات، وبعضهم حتى يذهب إلى مجالات أخرى بعيدة تمامًا، قد تصل إلى حفلات الزفاف – حيث لا حدود للإنفاق (لماذا لم نفكر بذلك من قبل؟). وبينما يكافح الجميع للبقاء، يراود المؤسس السؤال المؤلم الذي بدأ به الرحلة: "هل استحقّ الأمر كل هذا العناء؟ كل ما أردته هو أن يكون للكرتون كلمة عربية! ربما كان عليّ الاستثمار في العقار، كما نصحني عمي." فهل أنا أخوض المعركة الخطأ؟
أين تذهب هذه الأموال؟
لنكن صريحين، صناعة الكرتون بمقاييس عالمية مكلفة للغاية، وليس هناك عائد سريع على الاستثمار. حتى أكثر النماذج المالية تفاؤلًا لن تخفي هذه الحقيقة. حين ننظر إلى قصص النجاح، نحن نرى فقط قمة الجبل الجليدي، لكن ما لا نراه هو السنوات التي استغرقها الوصول إلى هناك: المحاولات الفاشلة، التعديلات المتكررة، والميزانيات التي تُستهلك قبل أن يرى المشروع النور.
أولًا، جزء كبير من الميزانية يذهب إلى الرواتب، لأن صناعة الكرتون ليست مثل مشروع هندسي يمكنك حساب تكلفته بدقة. بل هي عمل إبداعي، حيث يتغير المنتج باستمرار وفقًا للرؤية الفنية، وقد يتطلب ذلك مراجعات مستمرة قد تستهلك نصف الميزانية. فكل حركة لشخصية كرتونية، كل مشهد، وكل تفصيلة مرئية أو صوتية تتطلب عشرات من المحترفين: رسامين، محركين، كتّاب سيناريو، ملونين، مصممي خلفيات، مهندسي صوت، وفنيي مؤثرات بصرية، وكل منهم يحتاج إلى وقت وأدوات متخصصة.
ثانيًا، هناك تكلفة إعادة الصياغة والتطوير. على عكس المنتجات التقليدية، لا يمكنك معرفة الشكل النهائي للمسلسل أو الفيلم الكرتوني منذ البداية، بل يتطور العمل مع الوقت، مما يعني أن مشاهد كاملة قد تُعاد من الصفر أو تُعدل عدة مرات قبل أن تصل إلى المستوى المطلوب. أحيانًا، نصف العمل الذي تم إنتاجه يتم التخلص منه أو إعادة رسمه بالكامل، كما حدث في فيلم فروزن على سبيل المثال، حيث تم تغيير القصة والشخصيات الرئيسية خلال مراحل الإنتاج، لكن كان الأمر يستحق العناء في النهاية! أليس كذلك؟
ثالثًا، التكنولوجيا والبرمجيات المتخصصة تستهلك ميزانية ضخمة. برامج التحريك والرسم ثلاثي الأبعاد، وأجهزة الحاسوب القوية، والاستوديوهات الصوتية، كلها تكاليف لا يمكن الاستغناء عنها.
إذا كانت معظم تكلفة إنتاج الكرتون تذهب إلى الرواتب، فلماذا لا يتم توظيف الفريق داخليًا بدلًا من الاعتماد على استوديوهات خارجية؟ سؤال منطقي، لكنه أكثر تعقيدًا مما يبدو.
لماذا لا ينمو رسامو الكرتون على الأشجار؟
بناء فريق داخلي يتطلب وقتًا واستثمارًا طويل الأمد. المرحلة الأولية لتوظيف فريق صغير قد تستغرق من ستة أشهر إلى سنة، لكن للوصول إلى استوديو متكامل قادر على إنتاج عمل بجودة عالمية، قد يستغرق الأمر بين ثلاث إلى خمس سنوات. فالاستوديو ليس مجرد مجموعة من الرسامين والمحركين، بل منظومة متكاملة تشمل مخرجين فنيين، مهندسي صوت، كتّاب سيناريو، متخصصي مؤثرات بصرية، وتقنيين في الإضاءة والخلفيات، إضافة إلى الحاجة إلى تدريب مستمر لضمان التطور في مستوى الإنتاج.
كل ذلك يحتاج إلى منتجين متخصصين في إدارة مشروع بفهم عميق للعملية الإبداعية، حيث لا يمكن قياس الإنتاج بنفس معايير المشاريع التقليدية، فالتعديلات المستمرة جزء أساسي من طبيعة هذا العمل.
وهناك مشكلة التوظيف، فحينما تبحث عن متقدمين مؤهلين في مدينتك، لن تجدهم بسهولة ينمون على الأشجار!
بناء صناعة الكرتون في مدينة معينة لا يقتصر على إنشاء استوديو وتوظيف فنانين، بل يتطلب خلق بيئة إبداعية قادرة على جذب المواهب وصقلها، فيما يعرف بـ "الميلوو الإبداعي" (Creative Milieu)، وهو عنصر أساسي في نجاح الصناعات الإبداعية عالميًا. بعض المدن أصبحت مراكز لصناعة الأفلام والرسوم المتحركة لأنها لم تركز فقط على البنية التحتية، بل وفرت بيئة ثقافية محفزة، مجتمعات فنية نابضة بالحياة، فرصًا للتواصل مع محترفين عالميين، وبرامج دعم وتمويل تشجع على المغامرة الإبداعية. الأمر لا يشبه بناء سكن للعمال لتشييد أطول ناطحة سحاب، بل يتطلب تكوين منظومة متكاملة تمتد من التعليم والتدريب إلى الحاضنات الفنية والمهرجانات، لجذب هذه الفئة النادرة من المبدعين الذين يشكلون جوهر هذه الصناعة.
إذن، هل بناء استوديو داخلي يستحق العناء؟ إذا كان الهدف هو إنتاج عمل واحد، فالاستعانة باستوديو خارجي هو الحل الأكثر كفاءة. لكن إذا كان الطموح يتجاوز ذلك إلى بناء علامة تجارية مستدامة، فإن الاستثمار في فريق داخلي قد يكون خيارًا استراتيجيًا، رغم تكلفته العالية في البداية. ربما يكون الحل الأمثل هو المزج بين الخيارين، بحيث يبدأ الفريق الداخلي بالنمو تدريجيًا، مع الاستفادة من خبرات الاستوديوهات القائمة، مما يخلق توازنًا بين المرونة التشغيلية والاستدامة طويلة المدى.
حتى وان افترضنا قيامنا بكل تلك الإجراءات، تبقى مشكلة توفير ميزانيات مليونية لتمويل مشاريع قابلة للتنفيذ دون انتظار عائد، معظم شركات القطاع الخاص لا يوجد لديها النفس الطويل للقيام بذلك، فسرعان ما تلجأ إلى مصادر دخل قصيرة المدى، على حساب العمل على مشاريع الأفلام طويلة المدى والتي قد يستغرق العمل عليها من ثلاث إلى خمس سنوات دون أي عائد مباشر يذكر! ويبقى التساؤل؟ هل يستحق الأمر حقًا هذا العناء؟
عصر الطرق المختصرة
في هذا الزمن، الجميع يبحث عن أقصر الطرق، ولو كان بالإمكان إنتاج فيلم كامل بزر “Skip”، لفعلنا ذلك بلا تردد! المستثمر يبحث عن shortcut بتخفيض التكاليف، وإقناع نفسه بأن الذكاء الاصطناعي يمكنه رسم وتحريك الشخصيات وكتابة القصة وإعداد القهوة أيضًا! المبدع، من جهته، قرر تجاوز منصات التوزيع، متوهمًا أنه يستطيع تحقيق النجاح وحده عبر فيديوهات سريعة على السوشال ميديا، حتى يجد نفسه يصنع محتوى لا يتجاوز 15 ثانية فقط، مقابل العمل ثمانية أيام في الأسبوع دون مقابل، حتى يصطدم بالحقيقة المُرّة: أن الآلاف الذين يتابعونه قد يكونون مستعدين لنقر بطاقاتهم الائتمانية على عصير أزرق دون النظر إلى الفاتورة، لكن حين يعرض ميدالية تحمل شخصيته الكرتونية، التي صنعها بكل حب، يترددون في دفع دولار واحد.
أما الجمهور؟ فقد أصبح يعيش في دوّامة الاختصارات النهائية، حيث لا وقت لمشاهدة مسلسل كرتوني كامل، بل يكتفي بمشاهدة مقتطفات منه عبر فيديوهات قصيرة، أو الأسوأ: التعرف على القصة بالكامل عبر تعليق مثبت!
في هذه الدوامة، يبدو أن الجميع مشغول بتوفير الجهد، لكن لا أحد يحقق النجاح الحقيقي. فهل يمكن بناء صناعة حقيقية على ثقافة“اختصار كل شيء”.
لكن، في عصر السرعة هذا، البحث عن الاختصار ليس فكرة سيئة تمامًا. بل على العكس، يمكن أن يكون طريقة ذكية لاختبار جدوى أي مشروع قبل أن نستثمر فيه سنوات من الجهد والمال. مفهوم المنتج الأولي القابل للاختبار (MVP) يمكن أن ينطبق على الرسوم المتحركة كما ينطبق على الشركات الناشئة. بدلاً من انتظار ٣ إلى ٥ سنوات لإنتاج فيلم أو مسلسل مكلف، يمكن اختبار نجاح الشخصيات والقصص من خلال أساليب أسرع وأقل تكلفة: نشر رسوم كوميكس على منصات التواصل، إصدار مانجا كما فعلت اليابان قبل تحويل الناجح منها إلى أنمي، أو إنتاج فيديوهات قصيرة لاختبار تفاعل الجمهور قبل الاستثمار في مشروع ضخم.
هذا النموذج لا يجعل المستثمر أكثر طمأنينة فحسب، بل يمنح المبدعين فرصة لفهم ما يريده الجمهور فعلًا، بدلًا من أن يجدوا أنفسهم بعد سنوات من الإنتاج في مواجهة واقع لم يتوقعوه. إذن، ربما الاختصار ليس العدو، وإنما طريقة ذكية للعبور نحو النجاح بأقل المخاطر.
الذكاء الاصطناعي.. المساعد أم البديل؟
الذكاء الاصطناعي اليوم أصبح عاملًا مساندًا في الإنتاج، يسرّع بعض العمليات، ويوفر بعض الوقت، لكنه ليس بديلًا حقيقيًا. هناك تجارب نجحت في الاعتماد على AI في تسريع عمليات التحريك والتلوين. إلا أنه لا يزال غير قادر على إنتاج محتوى إبداعي كامل بدون تدخل بشري (حتى وقت كتابة هذه السطور)، ولكن يمكنه تحسين الكفاءة في بعض الجوانب. نحن في فوضى الذكاء الاصطناعي، حيث تتغير القوانين والتوجهات يوميًا. بدأت بعض المنصات حتى بطلب توضيح نسبة تدخل الذكاء الاصطناعي في العمل، وقد تكون هناك موجة مضادة قريبًا لوضع ضوابط وأخلاقيات معينة.
المال وحده لا يكفي
الميزانية ليست كل شيء. أحيانًا، حتى مع الإنفاق الضخم، تكون المحاولات مجرد إطلاق سهم في الظلام. لذا، فالحل هو إطلاق العديد من الأسهم، على أمل أن يصيب أحدها الهدف. لكن هناك عاملًا آخر لا يمكن شراؤه: الموهبة.
كما في الرياضة، لا يتكرر لاعبون مثل ميسي ورونالدو، وكذلك في عالم الرسوم المتحركة، هناك مواهب نادرة مثل هاياو ميازاكي من استوديو جيبلي. امتلاك المال وحده لا يكفي، فالمال قد يشتري الأدوات، وقد يوفر أفضل فريق إنتاج، لكنه لا يستطيع أن يخلق روحًا فنية أصيلة من العدم. بعض المواهب لا يمكن استبدالها، ليس لأنها الأفضل تقنيًا فقط، ولكن لأنها امتلكت تركيبة نادرة من الهوس، العزلة، الجرأة، والقدرة على رؤية العالم بطريقة لا يفهمها الآخرون.
المبدعون الحقيقيون ليسوا مجرد أشخاص تعلموا الرسم أو التحريك، بل هم أولئك الذين اختاروا طريقًا بدا غير منطقي للجميع. الذين قضوا طفولتهم وهم يرسمون بلا هدف بينما أقرانهم يركضون خلف وظائف "حقيقية". الذين استثمروا سنوات في صناعة لا قيمة لها في نظر المجتمع، حتى أصبحت فجأة هي الصناعة التي يحتاجها الجميع. هؤلاء ليسوا موردًا يمكنك استبداله كما تستبدل قطعة غيار في آلة، لأنهم لم يصبحوا ما هم عليه عبر تدريب تقني فقط، بل عبر ظروف غير مألوفة، وتضحيات شخصية، ورؤية لا يمكن تدريسها في أي مدرسة.
لهذا، حين تجد موهبة حقيقية، لا تفترض أنك ستجد أخرى بسهولة. هؤلاء لا يولدون بكثرة، ولا يمكن "إنتاجهم" وفق خطة خمسية. الأمر لا يشبه بناء مصنع سيارات، حيث يمكنك ببساطة توظيف مهندسين جدد واستكمال العمل. هنا، نحن نتحدث عن أفراد، وليس مجرد مهارات. فإن كنت تعتقد أن المال يمكنه أن يعوض غياب الموهبة، فستدرك متأخرًا أن بعض الأشياء لا يمكن تصنيعها، بل تُكتشف وتُصقل عبر رحلة شاقة لا يسلكها إلا القليلون.
الاستثمار في الإبداع أم الذهاب إلى المريخ
والآن، دعني أطرح تساؤلًا: لماذا نذهب إلى المريخ؟ نحن نخوض رحلة إلى المجهول، دون أي ضمانات لعائد مباشر على هذا الإنفاق الضخم. لكن، هل فكرت يومًا في العوائد غير المباشرة؟ ما تأثير ذلك على الاقتصاد؟ كيف ينعكس على سمعة الدولة التي تنجح في هذه المهمة؟ كم موهبة جديدة ستُصقل، وكم مهارة ستُكتسب على طول الطريق؟ ما عدد براءات الاختراع التي ستُسجل خلال هذه الرحلة؟ هل تعلم أن الجودة الصناعية في قطاع العلوم والتكنولوجيا سترتقي من المستوى التجاري إلى المستوى الفضائي، وهو من أعلى درجات الجودة الممكنة؟ لماذا نذهب إلى المريخ؟ لا يوجد عائد مباشر، لا ضمانات، لكن الفوائد غير المباشرة هائلة: الابتكار، السمعة، تراكم الخبرات، براءات الاختراع، والارتقاء بالجودة الصناعية.
فلنطبّق هذا على مجال الاقتصاد الإبداعي. المشكلة أن الأهداف غالبًا ما تكون قصيرة المدى، وهذا سبب فشل الكثير من المحاولات. ما هو “المريخ” في عالم الرسوم المتحركة؟ الفوز بجائزة الأوسكار؟ أن يصبح لدينا استوديو عربي منافس عالميًا؟ إذا كان الهدف بعيدًا، فلنقسمه إلى أهداف قابلة للقياس. إذا كانت هناك فرصة ١٠٪ للوصول إلى هناك، فكم عدد السنوات التي نحتاجها؟ كم فيلمًا علينا إنتاجه؟ كم موهبة نحتاج تخريجها؟ كم برنامج نقل معرفة نحتاج؟ الهدف ليس لحظة ظهور على المسرح، بل أن تحل ضيفًا دائمًا عليه لسنوات طويلة.
الشخصيات الكرتونية.. قوة ناعمة تصنع المستقبل
صناعة الكرتون ليست مجرد ترفيه، بل أداة لإعادة تشكيل صورة الدول وتعزيز قوتها الناعمة. انظر إلى اليابان، كيف تحوّلت من دولة صناعية مرتبطة بالحرب إلى رمز ثقافي عالمي بفضل الأنمي والمانجا. شخصيات مثل “بيكاتشو” و”غوكو” لم تكتفِ بجذب الملايين، بل ساهمت في نشر الثقافة اليابانية عالميًا وتعزيز اقتصادها السياحي والإبداعي. لا يُنظر إلى اليابان كدولة مصدّرة للسيارات والإلكترونيات فحسب، بل كدولة تُلهم الأجيال بشخصياتها الكرتونية، وتجذب ملايين السياح إلى طوكيو لزيارة متاحف وعوالم هذه الشخصيات.
لكن تحقيق هذا التأثير لم يكن مجرد صدفة أو نتيجة استيراد نموذج أعمال جاهز من الخارج، بل كان ثمرة استثمار طويل الأمد في قيادات محلية تفهم طبيعة جمهورها، وتدرك كيف يمكن تحويل الإبداع إلى قوة اقتصادية وثقافية. فكما لا يمكن تكرار تجربة اليابان بحذافيرها في أي مكان آخر، لا يمكن بناء صناعة كرتونية ناجحة دون الاعتماد على قيادات تمتلك فهمًا عميقًا للثقافة المحلية وسلوك المستهلك.
لماذا يجب الاستثمار في قيادات محلية؟
النجاح في صناعة الرسوم المتحركة لا يقتصر فقط على جودة الإنتاج، بل يعتمد بشكل أساسي على القيادة والإدارة وفهم السوق المحلي. كثير من المشاريع تفشل لأنها تحاول استيراد نموذج أعمال جاهز من الخارج، معتقدة أن ما نجح في اليابان أو أمريكا سينجح بنفس الطريقة هنا. لكن الحقيقة هي أن كل دولة لها طبيعتها الخاصة في تحرك الأموال وسلوك المستهلك، وما قد يكون مصدر ربح في سوق معين قد يكون بلا قيمة في سوق آخر.
الاعتماد على قيادات أجنبية فقط دون الاستثمار في تطوير كفاءات محلية هو خطأ شائع. صحيح أن الخبرات العالمية تضيف قيمة، لكن القادة المحليين هم الأقدر على فهم الثقافة الشعبية، والعادات الاستهلاكية، وما يجعل الجمهور يتفاعل ويدفع مقابل المنتج. تطبيق أفضل الممارسات لا يعني استنساخها بحذافيرها، بل تطويعها بما يتناسب مع طبيعة السوق المحلي.
سلوك المستهلك ليس ثابتًا، بل يتغير بشكل كبير بين منطقة وأخرى، بناءً على العوامل الثقافية، والاقتصادية، وحتى الاجتماعية. ما تظنه مجانيًا، قد يكون الناس مستعدين لدفع مبالغ كبيرة عليه، وما تعتقد أنه منتج رابح، قد يتوقع الجمهور حصولهم عليه بشكل مجاني. لهذا، نحتاج إلى بناء نموذج أعمال محلي خاص بنا، وليس مجرد استيراد نموذج خارجي جاهز. القيادة المحلية هي التي ستفهم كيف يتحرك السوق، وكيف يمكن خلق مصادر دخل تتماشى مع عادات المستهلك، بدلًا من محاولة فرض نموذج غير مناسب، محكوم عليه بالفشل من البداية.
لكن الأمر لا يتوقف عند الجمهور فقط، بل يمتد إلى أصحاب المصلحة والمؤسسات التي تؤثر بشكل غير مباشر على صانع القرار. في كثير من الدول، نجاح العمل الفني لا يعتمد فقط على الجمهور، بل يتأثر بمنظومة كاملة تشمل المؤسسات الإعلامية، القنوات، الجهات الرقابية، وحتى الشركات الراعية والمعلنين، الذين قد يحددون ما يمكن إنتاجه وما لا يمكن، بناءً على توجهاتهم ورؤيتهم السوقية.
هذه الشبكة من العلاقات والتأثيرات غالبًا ما تكون غير مرئية للقادة القادمين من الخارج، الذين قد يفترضون أن النجاح يعتمد فقط على جودة المحتوى ومدى تقبله من الجمهور. لكن الواقع أكثر تعقيدًا: فهم هذه المنظومة، والتعامل مع أصحاب المصلحة المحليين، ومعرفة من يمتلك "زر الموافقة" الحقيقي في أي مشروع، هو أمر لا يمكن تعويضه بمجرد تطبيق أفضل الممارسات العالمية. ما ينجح في سوق معين لا ينجح بالضرورة في آخر، ليس فقط بسبب اختلاف المستهلك، بل بسبب اختلاف من يملك القرار في الخلفية.
لهذا، وجود قيادات محلية ليس مجرد خيار، بل ضرورة. هم وحدهم القادرون على فهم ديناميكيات السوق، والتحركات غير المعلنة، والأطراف المؤثرة التي لا تظهر في التقارير الرسمية، والقرارات التي تُتخذ في غرف خلفية لا يدرك وجودها القادمون الجدد.
سنوات من التجارب.. هل تعلمنا شيئًا؟
هذه الصناعة ليست حديثة تمامًا على العالم العربي، فهناك تجارب مصرية قديمة مثل مسلسل بكار الذي كان من أوائل الإنتاجات العربية الناجحة. كل جيل قدم محاولاته، ولكل تجربة نقاط قوتها وضعفها، لكن القيمة الحقيقية تكمن في التعلم منها وتطويرها، بدلاً من البدء من الصفر في كل مرة.
نحن نثق في القيادات الشابة، إلى الأفكار الجديدة، إلى الأشخاص الذين يمتلكون الطاقة والرؤية الطموحة لدفع هذه الصناعة إلى الأمام. لكن الوثوق بهم لا يعني تجاهل التاريخ، ولا يعني إعادة اختراع العجلة في كل مرة. لقد مرت أكثر من 10 سنوات منذ ظهور التجارب الخليجية الأولى في مجال الرسوم المتحركة، وخلال هذه الفترة، نشأت أعمال تستحق التوقف عندها ودراستها بتمعن: حمدون، منصور، فريج، شعبية الكرتون، مسامير، سراج، المصاقيل،فيلم بلال، وفيلم الفارس والأميرة وفيلم الرحلة وغيرهم من المشاريع التي حملت الطموح والإصرار على خلق محتوى محلي أصيل.
إذا كان هناك شيء تعلمته من رحلة الدكتوراه، فهو أهمية القيام بمراجعة دقيقة للتجارب السابقة، وفهم الدروس المستفادة منها. في البحث العلمي، لا يمكن أن تبدأ دراسة جديدة دون الاطلاع على كل ما كُتب في المجال نفسه، لأن كل دراسة هي امتداد لما سبقها، وكذلك الحال في الصناعة الإبداعية. كل استوديو مر برحلة خاصة به، تعلم دروسًا، تعرض لعثرات، وتوصل إلى استنتاجات كان يمكن أن توفر على الآخرين سنوات من المحاولات. تجاهل هذه الخبرات يعني تكرار الأخطاء نفسها، والوقوع في الفخاخ التي كان يمكن تجنبها.
النجاح في المستقبل لا يعني القفز فوق الماضي، بل البناء عليه. في عالم سريع التغير مثل صناعة الرسوم المتحركة، فإن من يفشل في التعلم من تجارب غيره، سيجد نفسه يعيد نفس المحاولات، بنفس التحديات، مع نفس النتائج غير المرضية.
كيف نعرف أننا نجحنا؟
النجاح في صناعة الرسوم المتحركة لا يُقاس فقط بتحقيق عوائد مالية أو ببيع حقوق البث لمنصة كبرى، بل هو مزيج معقد من التأثير والاستدامة والقدرة على الاستمرار في المنافسة. إنه معادلة تجمع بين التأثير الثقافي، والاستدامة التجارية، والاعتراف العالمي.
على المستوى الثقافي فالنجاح هو عندما تتحول شخصياتك إلى جزء من الثقافة الشعبية، عندما يُعاد استخدام مشاهد من أعمالك في “الميمز”، عندما يقتبس الأطفال عبارات أبطالك، وعندما يطالب الجمهور بالمزيد لأنهم شعروا بأنهم وجدوا شيئًا يمثلهم.
على المستوى التجاري فالنجاح يعني أن تكون قادرًا على تحويل هذا التأثير إلى استدامة مالية، وأن يصبح مشروعك قادرًا على تمويل نفسه والتوسع دون الاعتماد على تمويل خارجي مستمر.
أما على المستوى العالمي، فالترشيحات والجوائز مثل الأوسكار، البافتا، أو حتى جوائز المهرجانات المتخصصة في الرسوم المتحركة ليست مجرد ميداليات شرفية، بل هي شهادة دولية على جودة العمل، ووسيلة لفتح الأبواب أمام مشاريع أضخم وشراكات عالمية. الحصول على جائزة كبرى لا يعني فقط أن الفيلم كان ناجحًا، بل يعني أن الصناعة المحلية أصبحت معترفًا بها على المستوى الدولي، مما يجذب المزيد من المستثمرين والمواهب إلى هذا المجال
لكن النجاح ليس لحظة واحدة، بل حالة مستمرة. أن تكون قادرًا على إنتاج مشروع واحد ناجح لا يكفي، بل التحدي الحقيقي هو أن تبقى في اللعبة، أن يتحول الاستوديو من تجربة إلى كيان مؤثر، وأن يصبح لديك نموذج إنتاجي مستدام لا يعتمد فقط على ضربة حظ واحدة. النجاح هو عندما تتحول إلى مرجع، حين يبدأ الآخرون في استلهام أساليبك، ويصبح لديك جمهور ينتظر أعمالك قبل حتى أن تعلن عنها.
وإذا كنت تبحث عن الإجابة المختصرة: نحن نعرف أننا نجحنا عندما لا نحتاج إلى أن نُعرّف أنفسنا، بل يتحدث عملنا عنا.
تغيير العدسة
علينا تغيير طريقة قياس النجاح. لا يمكن النظر إلى صناعة الكرتون كعمل تجاري تقليدي يبحث عن أرباح فورية، بل كمشروع وطني يسعى لإنتاج أعمال تضاهي في جودتها المرشحة للأوسكار. يجب أن ندرك الزلزال الذي سيحدثه نجاح كهذا في سمعة الدولة المنتجة، وتأثيره على مستوى الصناعة بأكملها.
إذا أردنا أن يكون للكرتون العربي كلمة، فهذا ليس حلمًا فرديًا، بل مشروع أمة. والسؤال الذي يطرح نفسه: هل نحن مستعدون للرهان على المجهول، كما فعلت الدول التي راهنت على المريخ؟
الرهان هنا ليس على رحلة واحدة، بل على مستقبل كامل تُعيد فيه هذه الاستثمارات تشكيل قدراتنا وإمكاناتنا.




تعليقات