جيبلي وموسم حصاد رسومات الذكاء الصناعي: هل تنقرض اليد التي علمت الآلة كيف ترسم؟
- عبدالله الشرهان

- 2 أبريل
- 5 دقيقة قراءة
تاريخ التحديث: 3 أبريل

قبل أكثر من قرن، لم يكن اللؤلؤ في الخليج مجرد سلعة بل قصة كاملة من التعب والمغامرة والترقب والرزق. كانت مواسم الغوص تجمع الناس، وتجعل من كل غواص بطلًا، ومن كل لؤلؤة أمنية محظوظة تتحقق. وسببًا في استقرار آلاف العائلات التي اعتاشت على الغوص ومواسمه.
كان موسم الغوص، بفرحه وقلقه وأهازيجه، صناعة كاملة تشد الناس إلى البحر، وتربط الأرزاق بموجاته. حتى جاء ما لم يكن في الحسبان.. اكتشاف اللؤلؤ الصناعي على يد اليابانيين.
لم تمض سنوات قليلة حتى جرفت هذه الموجة كل شيء. غاص البحر في صمته، وانطفأت قناديل السهر على عودة القوارب، ولم يعد أحد ينتظر الغواصين على الشاطئ، وهجرت قوارب "السنبوك" حتى غاصت بين رمال الشاطئ.
ببساطة، انقلبت الطاولة. أصبحت اللآلئ تُصنع في اليابان، وتُباع بأبخس الأثمان، ولم يعد للبحّارة إلا الذكريات. بقي اللؤلؤ الطبيعي هناك يزين رقاب النخبة، لم يعد رزقًا، بل تحفة يهمس أصحابها بفخر اقتناء آخر حبات اللآلئ التي جمعت على وجه الأرض.
وسخرية القدر أن العالم بأكمله اليوم يبدو وكأنه يثأر لنا – نحن في الخليج - من اليابان نفسها، مسقط رأس الأنيمي وعلى رأسهم استوديو جيبلي، بتقليد أسلوبه الفني الساحر عبر الذكاء الصناعي.. مجرد مشهد مألوف آخر لمن عاش زمن الغوص.
فبضغطة زر، يمكنك توليد لوحة تظن أنها خرجت طازجة للتو من استوديو ميازاكي، لكنها في الحقيقة بلا ميازاكي، بلا أنفاس الرسامين، بلا قصص خلف الخطوط، وخربشات قلم الرصاص، وآثار الممحاة، والخطوط المتعرجة، وجميع أشكال الأخطاء التي تذكرنا بإنسانيتنا.
وأمام هذا المشهد، لا أستطيع أن أمنع نفسي من رؤية الصورة ذاتها تتكرر، لكن في عالم آخر.. عالم رسومات جيبلي.بإتقان مخيف، في فترة وجيزة كأنه سحر. لكن هل هذا السحر حقيقي؟ هل يعوضنا عن تلك الأنامل التي قضت سنوات وهي تتلمس الورق والفرشاة لتبني عالمًا من الخيال؟ أم أن الأمر لا يعدو كونه، كما حدث مع اللؤلؤ، مجرد تقليد رخيص؟
والمؤلم أنني كنت أتحدث مع إحدى الرسامات المحترفات، وهي فنانة من ذلك النوع الذي يعيش على ما تنتجه يديها حرفيًا. رسم الكتب مصدر رزقها الوحيد، وقبل أن أنهي سؤالي عن رأيها، ظهرت على ملامحها مشاعر متداخلة يصعب تفسيرها. إحباط؟ غضب؟ حزن؟ استسلام؟ ربما خليط منهم جميعًا.
من يعرف الرسامين جيدًا يعرف أنهم لا يجيدون التعبير بالكلمات.. صمتت لبرهة، ثم اختصرت وقالت إن بعض زملائها، الذين لم يعرفوا غير الفرشاة والورق مسارًا، بدأوا بالفعل في ترك الساحة والتوجه إلى مهن أخرى بعيدًا عن الفن. وكأن رسومات الذكاء الصناعي لم تكتفِ باحتلال السوق، بل سحبت معها أحلام فنانين.
ثم خطر لي سؤال، ربما لا يجرؤ كثيرون على طرحه: متى كانت آخر مرة رأينا فيها أسلوبًا لم يُقلد؟
فالإنصاف يقتضي أن نعترف بأن ميازاكي نفسه لم يكن أول من رسم هذه العيون الواسعة، ولا أول من جعل الطبيعة تتنفس بين أوراق الأنيمي.
جيل كامل من الرسامين في السبعينات والثمانينات — ممن عشنا طفولتنا معهم — هم أول من رسم لنا الرياح وهي تعبث بشعر “ريمي”، وجعلنا نشعر بحزن “سالي” دون أن تنطق، وعرّفنا على مغامرات “توم سوير” وهو يتقافز بين الغابات.
كانت هذه الروائع تُنتج تحت اسم روائع الأدب العالمي من استوديو نيبون وغيره، قبل أن يسمع العالم حتى باسم جيبلي.
والمفارقة أن ميازاكي وتاكاهاتا لم يكونا غريبين عن هذا العالم، بل كانا جزءًا منه. ميازاكي نفسه رسم مشاهد من عدنان ولينا (Future Boy Conan), وتاكاهاتا أخرج أعمالًا مثل هايدي وريمي. يمكن القول إنهم لم يخترعوا الأسلوب، بل كانوا أبناء تلك المدرسة، لكنهم — بلمسة دقيقة — رفعوه من مجرد “أنيمي تلفزيوني جميل” إلى مستوى “أسلوب فني سينمائي” خاص يُشار إليه اليوم باسم “أسلوب جيبلي”.

كلا العملين من إخراج وتصميم هاياو ميازاكي، الأول عندما كان مع استوديو نيبون (عدنان ولينا - 1978)، والثاني مع جيبلي (Laputa - 1986).
التشابه في الشخصيات وملامحها لم يكن سرقة ولا مصادفة، بل هو استمرار لأسلوب رسام قرر أن يحمل لغته البصرية معه من عمل إلى آخر.
ما فعله ميازاكي يشبه إلى حد ما مهنة الغوص على اللؤلؤ الطبيعي في الخليج، لم نكن أول من غاص إلى قاع البحر، لكننا عرفنا كيف ننتقي، ونصقل، ونترك أثرًا لا تستطيع التقنيات أن تقلده تمامًا، مهما بدت الصورة من بعيد شبيهة.
لكن، وهنا رأيي الشخصي، هل هي نهاية القصة؟ لا أظن. في وسط هذه الفوضى، هناك دروس عميقة ربما نحتاج إلى تذكير أنفسنا بها:
أولًا: الكل يحب جيبلي، نعم، الكل يحب أسلوب هذه المدرسة الفنية الفريدة، من أقصى الأرض إلى أدناها، كبارًا وصغارًا. إنه احتفال عالمي ممتد لأكثر من أربعين عامًا. فن إنساني يحمل شيئًا من الزمن الجميل لم تصنعه الآلة، ولا تراه إلا بين الخطوط المرتعشة، والعيون التي تتكلم بلا صوت. والخلفيات الخيالية التي تحول أكثر الأماكن مللًا وكآبة إلى تحفة نابضة بالألوان، فن دافئ إنساني صُنع بأيدٍ مرتعشة أحيانًا وأحلام كبيرة دائمًا. أسلوب جيبلي هو إعادة استحضار ذكريات طفولتنا منذ أيام توم سوير وعدنان ولينا. يحمل بداخله طفولتنا وأحلامنا وشيئًا لم ولن تفهمه الآلة مهما بلغت.
ثانيًا: الذكاء الصناعي وُلد ليبقى - كما حدث مع الآلة الحاسبة. لم تختفِ بعد أن ظهرت، بل أصبحت جزءًا من حياتنا، تطورت، وربما ستتطور إلى ما لا يتخيله عقل. لكن، وهنا نحن من يقرر متى نستخدمها.هل بعد أن نتقن العمليات الحسابية يدويًا ونفهم جوهرها؟ أم سنسمح لأطفالنا - بلا تردد - أن يحلوا واجباتهم بنقرة زر؟ قافزين فوق كل معارفنا البشرية، ومتجاوزين قبعات التفكير الست، ومطفئين أنوار العقول، لنضعها على وضعية توفير الطاقة بانتظار أن يأتي شيء “مهم فعلًا” يستحق نشغل عقلنا به؟ (ولا نعرف متى سيأتي أصلاً، إن جاء).
ثالثًا: الذكاء الصناعي لا يخترع. الآلة مهما بلغت من قوة، تظل تجمع وتخلط وتنسخ مما ابتكره إنسان في زمن ما، تأخذ من هذا وذاك، وتعيد ترتيب الأشياء. هي بارعة في القص واللصق، لكنها لا تعرف معنى العبرة ولا الدمعة التي تسقط على طرف اللوحة. يمكنها أن تقلد، لكنها لن تستطيع أن تبتكر أسلوبًا إنسانيًا جديدًا، لأنها ببساطة لا تعرف لماذا نبتكر أصلاً.
رابعًا: ماذا عن البيئة؟
إذا كنت ممن يهتمون بالبيئة والاستدامة، وممن يضعون نبتة صغيرة على مكاتبهم (أو على الأقل تدّعي ذلك في حساباتك الاجتماعية)، فهناك سؤال بسيط قد يغيب عنك وسط الحماس: كم من الطاقة تستهلكه عملية توليد صورة واحدة بالذكاء الصناعي؟
قد تندهش حين تعرف أن توليد صورة لا تحتاجها قد يستهلك طاقة تعادل شحن هاتفك بالكامل! قد لا يبدو الرقم صادمًا لو نظرنا له بشكل منفصل، لكن تخيّل أن هناك ملايين الصور تُنتج يوميًا بهذه الطريقة، لأغراض لا يتعدى بعضها كونها منشورًا عابرًا أو خلفية تجريبية. بينما صديقك الرسام — الذي قد يبدو لك بطيئًا وحساسًا لا يستهلك في جلسة الرسم سوى كوب شاي وإضاءة خافته في غرفته، وربما كلمتين تمدحه بهما، تجعله يبتسم مع نفسه بدون سبب لمدة أسبوع كامل.
فالأمر ليس مسألة اختيارية وحسب، بل هو تذكير بأن "الذكاء الصناعي"، في صورته الحالية، لا يوفر فقط الوقت والجهد، بل يستهلك موارد هائلة على حساب كوكب نُحب أن نمارس الوعي البيئي تجاهه في شعاراتنا، ثم نتجاهله في ممارساتنا اليومية.فهل سنغمض أعيننا حتى عن هذا الأمر ونترك للأجيال القادمة عناء القلق بشأنه؟ (نقطة للتفكير لا أكثر)
وأخيرًا، وأهم نقطة بالنسبة لي: إنها فرصة. كما ظهر "اللؤلؤ الصناعي" وجعل اللؤلؤ الطبيعي عملة نادرة، ستجعل هذه الموجة من رسومات الذكاء الصناعي الفنانين الحقيقيين عملة نادرة كذلك. هي فرصة لنعيد التفكير، ونتعلم من هذه الأزمة، ونخترع الأسلوب التالي، لا ليبقى مجرد اتجاه فني، بل ليصبح "الشيء" الذي ستقضي الآلات الأربعين عامًا القادمة في محاولة تقليده. إنها فرصة لاكتشاف الأسلوب القادم، لا لاستنساخ ما مضى. مثلما تعلمت الآلة من فنوننا، نستطيع نحن أن نستفيد منها، لكن لكي نبتكر، لا لنستسلم. هذه لحظة فارقة. ربما نحن على أبواب ظهور أسلوب الترند القادم الذي ستقضي الآلة الأربعين سنة القادمة في محاولة تقليده، ونحن بدورنا سنبتسم وقتها ونقول: " هل تذكرون حين رسمنا بهذا الأسلوب لأول مرة؟"
نعم، لن نستطيع إيقاف طوفان المنتجات والخدمات الرخيصة، ولن نقف في وجه هذه الرسومات التي تأتي بضغطة زر، لكننا نستطيع خلق شيء لا تعرفه الآلة: الشعور. ذلك الإحساس الذي يجعل المشاهد يتوقف لثوانٍ، وهو لا يعرف لماذا هذه اللوحة بالذات جعلته يشعر بشيء داخله. لذلك، ربما بعد سنوات، سنجد فنان الورق والقلم وقد أصبح كاللؤلؤ الطبيعي، نادرًا، غاليًا، ومحاطًا بمن يعرف قيمته حقًا.
لكن السؤال هو:عندما يحين هذا اليوم، هل ستكون فوق الأرض أم تحتها؟ وهل ستكون الآلة هي من علمتك؟ أم ستكون أنت من علمتها؟
أما أنا، فسأكون وقتها - إن أطال الله في العمر - أبحث عن ورقة وقلم لأرسم بها خطًا غير مستقيم، فقط لأتأكد أنني لا زلت بشريًا.. ولو حتى بالخطأ.




هل هي لحظة فارقة ، نعم نعترف بما هو جديد قادم ، ونؤمن كامل الإيمان بأن السر يكمن بمن يضغط على زر الأمر ، الإنسان هو المحور دائما ، فهو المتذوق المدرك للطعم الحقيقي ، المستمتع بجمال / الهارب من قبح اللوحة او القطعه الفنية المرسومة او المعزوفة ، فهو متلقي والمنتفع ، فما جدوى الانتاج والتوليد الفني إن لم يطلع او يستمع إليه!!؟؟
رائع جدا . وأشكر مأساة جيبيلي التي جعلتنا نكتشف بأن قلمك لا يقل براعه عن ريشتك🌹